الرئيسية / متفرقات / فضاء حر / “وطن على نُصب” ملحمة شعرية بين فلسطينيّي الأرض والمحتل

“وطن على نُصب” ملحمة شعرية بين فلسطينيّي الأرض والمحتل

سرّب الشاعر والقصّاص بدر السيد إلينا مسودة مسرحيته الشعرية الحماسية بعنوان (وطن على نُصب) وهي الآن بصدد الطبع.

تناول إلينا فيها القضية الفلسطينية بطريقة مغايرة عن المعتاد الذي يتميّز بتناول سياسي عقيم، وتعارك أخوة الدم والدين واللغة والمصير منذ عقود حول أصحاب الأرض والمحتل.

واكتفى الشاعر فى كتابته المنمّقة بفصلين فقط، تضمّنا كل شيء يسير في تسارع للأحداث، مُبرزا الداء ليكشف عن الدواء.

تستعرض هذه المسرحية الشعرية معاناة أسرة فلسطينيّة تحت جبروت الاحتلال الصهيونى وأوجاع الأمّة ككل فى واقعها الراهن، متكوّنة من عجوز سبعينيّ مقعد وابنته الكبرى التي تعيش معه (أم نضال)، وولديها (نصر) الذى استشهد، و(نضال) المختفي فى غياهب سجون المحتل والذى كان بصيص الأمل لأمه بعد استشهاد شقيقه (نصر).

كانت الأم تحاور ابنها نضال عبر قضبان السجن لتجده في أقصى درجات اليأس، ويطالبها بالعودة لبيتها ومشاركته اليأس قائلا: ” يا أمّ تاه الدرب وانكسرت قناة البندقية.. ما عدت أعرف من يثور ومن يتاجر بالقضية، صهيون بات الحلّ حتى في الخيام العربية.. ما عاد دمعك فوق خدك لؤلؤات مرمرية”.

وتبيّن من خلال حوارها مع العجوز أن زوجها وابنتهما الصبية قد استشهدا فى لحظة رهان عابث لجنود صهاينة. كما أنّ ابنة العجوز الصغرى (أم كرامة) التى تعيش مع زوجها، وابنتهما (كرامة)، التى تبيّن من خلال تواتر الأحداث أن الكاتب تعمّد هذه التسمية ليرمز للكرامة العربية الضائعة.

بدأ الكاتب المسرحية بمشهد فى غاية الإبداع والحنين إلى الدِعة والسلام.. فيفتح المشهد على صالة بيت ريفى فلسطينى صغير، بجداره الأيمن نافذة تطل على حديقة زيتون خلف البيت، قبالتها باب موارب مؤد للطريق.. وأثاث بسيط فقير وماكينة خياطة تنزوى فى أحد الجدران، عليها بقايا قصاصات وأثواب لم تكتمل، وسيدة فوق الأربعين بملابس فلسطينية تقليدية تقوم بأعمال منزلية، وقرب النافذة كرسى متحرك جلس عليه رجل عجوز سبعينى، وإن بدت صحة نصفه الأعلى جيدة، لكنه قعيد يبدو فى حالة نعاس.

ينتبه العجوز فزعا، بينما تنهض (أم نضال) غاضبة إثر اهتزاز شديد لجدران البيت وسماع صوت آلة ضخمة، فتسرع للنافذة وتكتشف أن بلدوزرا بصحبة جنود صهاينة يبحثون عن شباب قذفوا بالحجارة رتلا عسكريا.. تصيح عبر النافذة ليكف البلدوزر عن تدميره سورا خاصا بالبيت وحديقة زيتون صغيرة، وما يلبث البلدوزر أن يبتعد وتعود لماكينة الخياطة وهى تحدث نفسها: (أصواتنا بُحت وما فى العالم الكذاب سامع.. فإلى متى رباه يُقضى العمر فى تلك المواجع).

ويسمعان ضجيج الشباب الثائر وصوت طلقات رصاص، فيطلب العجوز من ابنته أن تدفع كرسيه إلى الباب ليرى ما يحدث فتحاول ألا تستجيب له: (أبتاه مثلك ليس فى مقدوره كرُ ولا فر وقد تغدرك رمية.. ورصاصهم مطر وأولى باتقاء ضرامه قدم فتية).

وبعد إلحاح تأخذه إلى باب البيت ليطلا عبرها على ما يحدث، وهناك يقول بأسى: (مرت قرون يا بنية والدم العربى يهرق بين المهادن والمخادن والمراوغ والمصفق.. حجر بكف صبى ينتهك استكانة أمة سقطت صريعة صمتها الملتف فى خزى ممنطق.. يرميه بغية أن يقول لمعتد أنا ها هنا والموت فى ومض الرصاص إليه يا بنتاه أسبق).

عمد المؤلف فى الكتابة والعرض إلى استخدام أساليب مبتكرة لإيصال المعنى وتجسيد المشهد فى عقل القارئ بالوصف الدقيق والكلمات الدالة الموحية، حتى يكاد يعرض مسرحيته المكتوبة فى اللاوعى للقارئ بشخوصها وكادراتها وأدق التفاصيل، لاجئا دون قصد إلى تقنية الفيديو كونوفرانس فى النقل المباشر لمناقشة بعض لقطات اجتماع العرب لحل القضية، وإظهار مشاهد من الماضي البغيض لبعض الأحداث التاريخية، يتداخل فيها العرض بين المسرح والشاشة الخلفية لتعرض المشاهد غير المتاحة مسرحيا، كل ذلك أبدعه الكاتب بأبيات شعرية محسوسة ومرسومة بعناية فائقة، حتى إن القارئ ينتقل بتخيله إلى الشارع  والبيت الذى تجرى فيه الأحداث وهو فى مكان ما فى أى عاصمة عربية.

ولأن اللاعب الأهم فى القضية هم الحكام وليس الشعوب فقد استعان الكاتب -فى تسلل ناعم- بمشهد واقعي لحاكمين عربيين يجتمعان للاتفاق على إقامة وحدة عربية، لكن الخلاف على الزعامة وإلى أى عاصمة سوف ينسب الفضل يفشل مشروعهما بشكل هزلى، وكذلك سياسى صهيونى يحاول إقناع دبلوماسيين غربيين برؤية دولته للقضية الفلسطينية وحق إسرائيل المزعوم فيها، وينهى آراءه باقتراح أن يترك الفلسطينيون حلم العودة للوطن، ويستبدلون به إقامة رمز لوطنهم عبارة عن نصب تذكارى يقام على سيارة متنقلة تدور فى مواسم على حدود بلدان لجوء الفلسطينيين، فى عيد سنوى يتحول إلى سوق تجارى وشعرى (أدبى).. ومن هنا أخذ اسم المسرحية (وطن على نُصب).

لم يغفل الكاتب شخصية الحكيم فى ثوب المجاذيب، الذى يقرأ كل ما يدور وينتقده فى صورة حكمة أو مثل عربى يلخص ما تتحدث عنه مؤتمرات العرب والغرب، فكانت شخصية (أبو ذهلان)، وهو رمز للمواطن العربى المفجوع من حال الأمة وسياسات بعض قادتها، والذى يتكرر ظهوره عبر الأحداث، ليظهر لأول مرة أثناء سيره بجوار منزل العجوز مرددا: (رعاك الله يا قدس فلا ذمما ولا أمة.. ولا عزما أبيا واحدا تجلو به الغمة)، ويدور حوار سريع بين (أبو ذهلان) والعجوز عبر باب البيت المغلق، يسأله العجوز: (أو مازلت تقارع خمرك بحثا عن لحظة نسيان؟)، فيدفع (أبو ذهلان) الباب معترضا ويظهر رجل كاريكاتورى منكوش الشعر بيده قنينة يرفعها للعجوز نافيا: (خمر؟ لا. لا.لا.. هذا مشروب الخذلان.. فيه مزيج من آمال وشعارات وأكاذيب صبت صبا فى الوجدان)، إشارة إلى الآمال والأمانى والشعارات الجوفاء التى يصدرها العرب تكرارا ولا جدوى.

وتتوالى الأحداث فى تناسق وشاعرية، وتفاعل مشاعر متدفقة، ورغبة جامحة إلى فعل شىء لقضيتنا العربية الكبرى، حتى يصل الكاتب إلى أخر مشاهد المسرحية، ومسك الختام هو أوبريت غنائى يؤديه كورس فردى وجماعى، كتبت كلماته بلوعة وتحد وأمل، فيقسم الكاتب على أن يوم العزة والكرامة وتحرير الأرض آت برغم كتامة المشهد والواقع المتردى الذى يعيشه العالم العربى والأمة الإسلامية، فيقول على لسان (أم نضال): (نامت عيون الحارسين ولم تعد تخشى إلها ساهرة.. القدس ضاعت فى القوافل والركاب التاجرة).

ويطبق الصمت على المسرح ويجمد (العجوز وأم نضال) على وضعهما الباكى دون حراك أو صوت، فيما ينفجر أداء كورس: (يا شام يا بغداد يا شبه الجزيرة يا قلاع القاهرة.. يا تونس الخضراء يا خرطوم يا بيضاء يا مدن البحار الهادرة.. يا موصل الأمجاد يا حلب العتيدة يا منارات المدائن فى الصحارى العامرة.. يا كل أرض رفرفت فيها بنود الفاتحين وصولة المجد التليد الباهرة.. نامت عيون الحارسين ولم تعد تخشى إلها ساهرة.. القدس ضاعت فى القوافل والركاب التاجرة).

وينتهى الأداء الأوبرالى الفخم للكورس بالبيت الأخير مكررا بصوت قوى وموسيقى قوية، يعقبها صمت ينفك بعده جمود حركة المسرح، فيطرق الجد محدثا نفسه فى نشيج ولوعة زاعق متأوها آهة طويلة تمتلئ أسى ومرارة (آآآآآآآآآآه.. آآآآآآآآه)، ثم يرفع  العجوز رأسه باتجاه ما وراء صالة الجمهور كأنه يناجى القدس: (فلتسلمى يا قدس إن نضالنا أوهى وأصدأ والحجى متحيرة.. لا تبك يا أخت اليبوس فلم تعد أسياف معتصم تجلجل هادرة.. عدنا قبائل يستبيح خيامها كسرى وقيصر والذئاب الفاجرة).

تعقب بذات الأسى والحسرة (أم نضال): (تجثو لغاصبها وتسقط رأسها بين الرمال ذليلة مستغفرة.. فيسومها نهبا وذلا بعدما يلقى بأوتاد الخيام مبعثرة)، فيتمالك العجوز نفسه ويتصيد شعورا بالأمل رغم اليأس المطبق قائلا: (لكنما لابد من صبح بُعيد الليل فى سنن الوجود السائرة.. يأتى النهار مدينتى رغم التواطؤ والنوايا المضمرة).

ترفع (أم نضال) يديها وصوتها باتجاه ما وراء صالة الجمهور وهى مستبشرة تخاطب الأمل فى عودة (كرامة) ابنة اختها بنبرات باكية تقول: (يأتى النهار كرامُ يا محبوبتى ويعود نورك للعيون الآسرة.. يأتى وتضحكنا السنابل فى الحقول الزاهرة.. ويضاحك الزيتون أعيننا نضيرا وغصونا مثمرة).

ومع إسدال الستارة، وقراءة أخر ورقة فى المسرحية نستمتع بكلمات أوبريت غنائى مكتوب بحرفية عالية يرددها الكورس: (يأتى النهار مدينتى رغم الخطى المتقهقرة.. يأتى النهار مدينتى رغم التواطؤ والنوايا المضمرة)، ثم يضم كورس (1 و2)، بعد الوصول إلى أخر بيت فى الأوبريت، وبنبرات قوية يؤكدان أنهما لم يفقدا الأمل ويرددان: (ليل الثعالب هالك ما أفجره.. ليل الثعالب هالك ما أفجره.. ما أفجره).. إسدال تام للستارة.

علي جاد

عن نوافذ

شاهد أيضاً

مبادرة إحياء يوم الشهيد الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *